رغم أن هناك اتجاهًا رئيسيًا في الأدبيات يرى أن الصراعات والحروب الأهلية تخلق أنماطًا من الاقتصاديات، وتعزز من قوة الشبكات المستفيدة منها، فيما يطلق عليه "أمراء الحرب"، والتي قد يعمل بها بعض التجار وخاصة عبر الحدود غير المسيطر عليها من قبل قوات حرس الحدود وخفر السواحل، إلا أن هناك فئات أخرى من التجار، في ليبيا واليمن وسوريا، يتعرضون لخسائر اقتصادية وربما مآسي إنسانية لا يمكن تجاهلها. فقد تأثرت أوضاع بعض التجار، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، في دول الصراعات المسلحة العربية، على نحو ما انعكس في عدم انتظام معاملاتهم التجارية نتيجة انخفاض قيمة العملات الوطنية، وتزايد أزمة السيولة النقدية، والمساهمة في دعم وتمويل المجهود الحربي سواء للجيوش النظامية أو الميلشيات المسلحة، والاستهداف من قبل الميلشيات المسلحة والعصابات الإجرامية، ومنافسة شبكات الاقتصاديات الحدودية.
وبوجه عام، تمثلت أبرز المشكلات التي واجهت التجار ورجال الأعمال في دول الصراعات العربية، فيما يلي:
اقتصاد منهك:
1- انخفاض قيمة العملات الوطنية: تشير العديد من التقارير الصحفية، وخاصة الصادرة عن وكالة الصحافة الفرنسية في 18 سبتمبر 2019، إلى أن انخفاض قيمة الليرة السورية أنهك تعاملات التجار وخاصة في العاصمة دمشق. فقد تراجعت قيمة الليرة، بشكل حاد، في السوق السوداء، بحيث وصلت في الأسبوع الأول من سبتمبر الجاري إلى 691 مقابل الدولار الواحد، وهو ما يمثل أدنى مستوى لها، حيث كان سعر الدولار يساوي نحو 500 ليرة سورية في نهاية عام 2018.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن سعر الدولار كان يبلغ نحو 48 ليرة سورية قبل بدء النزاع في البلاد عام 2011. وعلى الرغم من أن اللجنة الاقتصادية في رئاسة الحكومة السورية أقرت، بعد اجتماع عقدته في منتصف سبتمبر الجاري، اتخاذ جملة من التدابير القانونية لضبط التعامل غير الشرعي بالعملات الأجنبية، وتشديد الرقابة على المتعاملين، بشكل أدى إلى تحسن قيمة العملة نسبيًا، إلا أن ذلك لم ينعكس على أداء قوى السوق، وهو ما يشير إلى أن الاقتصاد السوري منهك بعد أكثر من ثماني سنوات على النزاع.
ولاشك أن ذلك الصراع قلص الإيرادات المالية وأدى إلى انخفاض تدفقات العملات الأجنبية، خاصة في ظل تعرض سوريا لعقوبات اقتصادية أمريكية وأوروبية مما تسبب في المزيد من الخسائر. هذا فضلاً عن تأثر سوريا بشكل واضح بالعقوبات الأمريكية على إيران، وهو ما عبرت عنه أزمة الوقود التي تصاعدت خلال شهور فصل الصيف، لا سيما بعد توقف خط يربط سوريا بإيران لتأمين النفط بشكل رئيسي. ونظرًا لأن التجار السوريين يستوردون السلع المختلفة بالدولار من المراكز الرئيسية ويقومون ببيعها للزبائن بالليرة، فإن ذلك زاد من عدم استقرار سعرها الذي يتغير من ساعة إلى أخرى.
ضعف السيولة:
2- تزايد أزمة السيولة النقدية: تواجه القطاعات المصرفية في دول الصراعات المسلحة العربية أزمة في السيولة النقدية، خاصة بعد تراجع الإيرادات المالية بسبب تواصل الانقسام السياسي بين الأطراف المتحاربة وتفاقم الوضع الأمني، وسيطرة التنظيمات الإرهابية والميلشيات المسلحة والكتائب المناطقية على مصادر الثروة الاقتصادية والموارد الطبيعية، على نحو يؤثر سلبًا على أوضاع التجار ورجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال الذين قد يلجأ أغلبهم إلى سحب المدخرات من البنوك.
وبالطبع، فإن ذلك يسبب مشكلات لمالكيها نظرًا لعدم قدرتهم على إتمام تعاملاتهم مع الخارج وخاصة مع ضعف الإيرادات بالعملة الأجنبية، والارتفاع في سعر الصرف في السوق السوداء، والتضخم الحاد، بما يشجع على النشاط غير المشروع، وهو ما يقود في الحاصل الأخير إلى الركود العميق في الاقتصاديات الوطنية.
إتاوات مالية:
3- المساهمة في دعم وتمويل المجهود الحربي: وذلك نتيجة الضغوط والإملاءات التي يتعرض لها التجار سواء من القوات النظامية في سوريا أو الميلشيات المسلحة في اليمن. فقد فرضت ميلشيا الحوثي في العاصمة صنعاء وإب ومحافظات أخرى، منذ أسابيع قليلة، إتاوات تحت اسم "قوافل الغذاء" على المحال التجارية وشركات الدواء وفروعها والصيدليات بهدف إجبارها على دفع مبالغ مالية للميلشيا إما بشكل نقدي أو في صورة أدوية وغلال غذائية. ولم تكن تلك الجبايات حديثة العهد بل تعود إلى مرحلة ما بعد سيطرة الحوثيين على مناطق نفوذهم في شمال اليمن حيث تطالب الميلشيا التجار بضرائب متأخرة.
فضلاً عن ذلك، قامت الميلشيا بتشكيل لجان ميدانية تحت اسم "تطبيق المواصفات والمقاييس" تمثل هدفها في إجبار مالكي المحال (بل والصيدليات) على دفع مبالغ مالية وإلا تعرضت أنشطتهم التجارية للإغلاق. ووفقًا لما أشار إليه عدد من التجار في محافظة إب اليمنية، على نحو ما نشرته صحيفة "الشرق الأوسط" في 18 سبتمبر الجاري، فإن ثمة إتاوات مالية جديدة يتعرض لها تجار الجملة بالمحافظة عبر حملات ميدانية مسلحة. وتهدف تلك الجبايات المالية إلى دعم الميلشيا في جبهات القتال المختلفة أو دعم أسر قتلاهم الذين لقوا حتفهم في تلك الجبهات.
ولعل ذلك يفسر حرص العديد من التجار والشركات ومراكز التسوق على تصفية الأنشطة الاقتصادية ومغادرة مناطق سيطرة الميلشيا الحوثية. ووفقًا لإحدى النتائج الأولية لمسح أجراه البنك الدولي، في أكتوبر 2018، فإن أكثر من 35% من الشركات اليمنية أغلقت أبوابها، فيما عانت أكثر من 51% من الشركات الناجية من تضاؤل حجمها وتراجع أعمالها. ويعبر ذلك – ضمن مؤشرات أخرى- عن اقتصاد حرب وليس اقتصاد دولة يمكنها التعافي.
ضغوط مستمرة:
4- الاستهداف من قبل الميلشيات المسلحة أو العصابات الإجرامية: لجأت ميلشيا الحوثي، طبقًا لما نشرته تقارير عديدة، إلى اختطاف عدد من التجار ورجال الأعمال القاطنين في المناطق الخاضعة لسيطرتها، فضلاً عن أبناءهم وربما أقاربهم، حيث يتم وضعهم في السجون لإرهابهم وإجبارهم على دفع المبالغ المالية التي تريدها. وقد يتم احتجاز ممتلكات عدد من التجار، سواء الثابتة أو المنقولة، وخاصة بالنسبة لمالكي الذهب ومحلات الصرافة، وربما يتم ذلك عبر "محكمة الأموال العامة" التابعة لهم.
ولا يخفي بعض التجار ورجال الأعمال قلقهم من الكشف عن حساباتهم البنكية وتسريبها إلى الخارج على نحو قد يُعرِّضهم للابتزاز والاختطاف من قبل الميلشيا. فالهدف هو الابتزاز لنهب ممتلكات ومدخرات اليمنيين الأغنياء الذين يرفضون الخضوع لإملاءات الحوثي. ويتكرر ذلك في حالة ليبيا أيضًا من جانب بعض الكتائب المناطقية والميلشيات المسلحة التي تقوم بتبني الآليات نفسها ضد بعض التجار ورجال الأعمال وخاصة الذين يتخذون مواقف مناوئة لها أو محسوبين على أطراف سياسية أخرى.
شبكات الظل:
5- منافسة الاقتصاديات الحدودية: بدأت الاقتصاديات الحدودية المتنامية تنافس الاقتصاد المشروع الذي يديره التجار ورجال الأعمال. وتعتمد الأولى على شبكات تهريب الأسلحة والمخدرات والبضائع والوقود والبشر، بل صار التهريب "عمل ووظيفة" وليس "جريمة" في كل دول الصراعات المسلحة العربية، إذ يهيمن على الاقتصاد المحلي منذ تحولات 2011، لدرجة أن قوات الأمن المحلية في بعض الدول ضالعة في تلك الشبكات لاستفادتها المالية أو لأن المهربين يفوقونها تسليحًا.
وطبقًا لدراسة صادرة عن مجموعة الأزمات الدولية في عام 2017، يوفر تهريب البشر في ليبيا عائدات سنوية تقدر بما يتراوح بين 1 و1,5 مليار دولار، لا سيما بعد تأثر الاقتصاد المشروع القائم على الزراعة والنفط، ومن المحتمل أن يحقق الاقتصاد غير المشروع مكاسب مالية وأرباحًا متوقعة في سوريا واليمن، وخاصة الأخيرة، حيث أن القبائل الضالعة فيه من غير المرجح أن تتخلى عنه، حتى لو توافرت مصادر بديلة للعمل.
خلاصة القول، إن التطورات التي شهدتها دول الصراعات المسلحة العربية، لا سيما ليبيا واليمن وسوريا، ساهمت في فرض أعباء مضاعفة على فئات عديدة داخل المجتمعات، وأبرزها التجار ورجال الأعمال، لا سيما بعد تفاقم المشكلات الاقتصادية وتدهور الأوضاع الأمنية وسيطرة الميلشيات الإرهابية والمسلحة على بعض المناطق وتصاعد تأثير العصابات الإجرامية وشبكات التهريب المحلية، والمدعومة من قبل قوى إقليمية ومرتزقة أجانب وتنظيمات إرهابية عابرة للحدود. فالضرر أصاب التجار ورجال الأعمال بشكل أكبر لأنهم يمتلكون موارد مالية، تسعى إليها جميع الأطراف الفاعلة في الساحة.